هي سلسلة شاملة للبيت المسلم بإذن الله سواء ما يخص الزوجين أو الطفل أو الصحة وربنا المستعان وستكون متجددة بعون الله ومدده وستنزل على أجزاء إن شاء الله والآن مع بداية السلسلة
سوء الإختيار :
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة واجبة على الإنس والجان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخير من دعا إليه بإحسان.
وبعد؛
فإن من أعظم الشركات التي يؤسسها الإنسان هي الشركة بين الزوج وزوجه؛ لأن منتجات هذه الشركة عبارة عن ذرية هي أفضل ما في هذا الوجود، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]، وهذه الذرية يرجى لها حمل أمانة الدين، وصيانة التوحيد، وحماية الديار والأعراض، وبناء المجتمع المسلم والأمة المسلمة المنوط بها قيادة الإنسانية إلى بر الأمان لتسعد في الدنيا والآخرة، وبناءً على هذا لا بد من الحذر والحيطة في اختيار كل شريك لشريكه، وأن يلتزم الشريكان أُسسًا جاء بها الشرع المطهر عند هذا الاختيار. وتركُ هذه الأسس يجعل الاختيار سيئًا ويكون من أعظم الأخطار التي تهدد كيان هذه اللبنة الأولى-الأسرة- وإليك أيها المكرم هذه الأسس.
أولاً: الدين:
إن الدين أعظم وشيجة تربط بين الزوجين، لأن حب الزوجين لبعضهما هو حب فطري، فإذا تُوج هذا الحب الفطري بالحب في الله صار الزوجان من أسعد الناس، ومن اختار شريكه على غير أساس الدين فقد أساء وتعدى وظلم نفسه وغيره، لقوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النساء: 34]، ولقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّـهُ}
[النور: 32].
ولما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتاكم من ترضون خُلُقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض». (حسن لغيره - السلسلة الصحيحة 1022).
ولما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك». (اللؤلؤ والمرجان 928).
ومعنى قوله: «فاظفر بذات الدين» أي: عليك بذات الدين فإن هذا هو اللائق بذوي المروءات وأصحاب الديانات أن يكون الدين هو أساس الاختيار، وخصوصًا فيما يدوم وتطول عشرته كالزوجة. ومعنى «تربت يداك» من ترب الرجل إذا افتقر، وهي كلمة شائعة، أي: افتقرت يداك إن خالفت ما أمرتك به وهو الظفر بذات الدين، ولأن صاحب الدين كنز وخير من ملء الأرض من الفساق وممن رق دينهم أو لا دين لهم، لما رواه البخاري عن سهل قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما تقولون في هذا ؟» قالوا: حَرِيٌّ إن خطب أن يُنكح وإن شَفَعَ أن يشفَّع وإن قال أن يُسْتَمَع، قال: ثم سكت. فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: «ما تقولون في هذا؟» قالوا: حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفَّع، وإن قال ألا يُستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا». (فتح الباري 5091).
والمرأة الصالحة هي خير ما يكتنز، لما رُوي عن ثوبان قال: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل، قالوا: فأي المال نتخذُ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : «ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة مؤمنةً تعين أحدكم على أمر الآخرة». (صحيح الجامع برقم 5231).
ولما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة». (مسلم 1467).
وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق». (الصحيحة برقم 283).
ولما كانت المرأة الصالحة الديّنة هي من خير الكنوز وخير المتاع ومن مفاتيح السعادة، كان السلف الصالح يحرصون على الزواج بها تحصيلاً لما سبق ورجاءَ أن يرزقوا بذرية صالحة، ومن أمثلة ذلك ما ورد في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في المرأة التي جاءت لتهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يقض فيها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فاختارها رجل من أصحابه وزوجها له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «فقد ملكتكها بما معك من القرآن». وفاز الصحابي بزوجة أثنى عليها القرآن بالإيمان بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50].
وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مر ذات ليلة فسمع امرأة تقول لابنة لها: قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فأجابت الفتاة: يا أماه، أو ما علمت بما كان من عزمة أمير المؤمنين، قالت المرأة: وما كان من عزمة أمير المؤمنين يا بنية ؟ قالت: إنه أمر مناديًا فنادى: لا يشاب اللبن بالماء، فردت المرأة قائلة: يا بنية قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فإنك في موضع لا يراك عمر ولا منادي عمر، فردت الفتاة على الفور: يا أماه، إن كان عمر لا يعلم فإله عمر يعلم، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء. فلما أصبح عمر رضي الله عنه قال لابنه عاصم: اذهب إلى مكان كذا وكذا فإن هناك صبية فإن لم تكن مشغولة فتزوج بها لعل الله أن يرزقك منها نسمة مباركة. وصدقت فراسة عمر رضي الله عنه وتزوج عاصم بها فولدت له أم عاصم، تزوجها عبد العزيز بن مروان، فولدت له عمر بن عبد العزيز الخليفة والأمير العادل. [الرياض النضرة في مناقب العشرة].
وكذا الحال بالنسبة للزوج الصالح صاحب الدين والخلق، كان السلف الصالح لا يتحرجون من عَرْضِ بناتهم على الصالحين كما ذكر ذلك القرآن على لسان صالح مدين لما عرض إحدى ابنتيه على موسى عليه السلام، قال تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، وبوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب النكاح بابًا سماه: عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير، وذكر حديثًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه حين تأيمت حفصةُ رضي الله عنها من خُنيس بن حذافة السهمي رضي الله عنه-وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد ببدرٍ- فقال عمر: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري. فلبث ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت تزوجت حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إليَّ شيئًا، وكنت أَوْجَد عليه مني على عثمان، فلبث ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وَجَدتَ عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئًا ؟ قال عمر: نعم. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ إلا أني كنت علمتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتُها. [فتح الباري 5122].
ويقول ابن حجر في تعليقه على الحديث: وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه؛ لما فيه من النفع العائد على المعروض عليه، وأنه لا استحياء في ذلك، وفيه أنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجًا؛ لأن أبا بكر كان حينئذ متزوجًا، وذكر أيضًا رواية عند الطبري وصححه هو والحاكم «أن عثمان خطب إلى عمر بنته فرده، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راح إليه عمر قال: يا عمر، ألا أدلك على ختن خير من عثمان وأدل عثمان على ختن خير منك ؟ قال: نعم يا نبي الله، قال: تزوجني بنتك وأزوج عثمان بنتي». قال الحافظ الضياء: إسناده لا بأس به. (فتح الباري: 9 ص 82، 83 بتصرف).
وكذا فعل سعيد بن المسيب، قال أبو وَدَاعَةَ: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أيامًا، فلما جئتُهُ قال: أين كنت؟ قلت: توفيت زوجتي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها، فلما أردت أن أقوم، قال: هل أحدثت امرأةً غيرها. فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟! قال: إن فعلتُ تفعلُ. قلت: نعم، ثم حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني ابنته على درهمين، وفي مساء ذلك اليوم إذا بالباب يُقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد، ففكرت في كل إنسان أعرفه اسمُه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وفتحت الباب وإذا سعيد بن المسيب، فظننت أنه بدا له، فقلت: فما تأمرني، قال: رأيتك رجلاً عزبًا فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه زوجتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله، ثم وضعها ورد الباب. (موارد الظمآن لدروس الزمان 4/228، 229).
وكذا حدث لوالد الإمام عبد الله بن المبارك، كان أبوه المبارك يحرس بستانًا ولم يأكل منه رمانة واحدة، وجاءه صاحب البستان يومًا ومعه أصحابه وطلب منه رمانًا حلوًا فأتاه برمان حامض، فقال له صاحب البستان: ما تعرف الحلو من الحامض؟ قال: لم تأذن لي أن آكل حتى أعرف الحلو من الحامض، فقال له صاحب البستان: عندي ابنة واحدة فلمن أزوجها ؟ فقال: اليهود يزوجون للمال، والنصارى للجمال، والعرب للحسب، والمسلمون يزوجون للتقوى، فمن أي الأصناف أنت زوّج ابنتك للصنف الذي أنت منه، فقال: وهل يوجد أتقى لله منك، ثم زوجه ابنته. (الجزاء من جنس العمل 2/106).
فالحرص الحرص على اختيار الدَّيِّن من الرجال والدَّيِّنة من النساء، وعدم الانخداع بالصور والمناظر الحسنة دون البحث والتفتيش عن الدين والتقوى.
[center]