من اختياري المنقول اقدمه لكم واقول على الله ومنه القبول
آلام غزة، وتحرير الأقصى
لطف الله بن ملا خوجه
كتبنا حتى مللنا.. جزعنا حتى سئمنا. صرخنا حتى انقطعت أصواتنا.. فسكتنا.
آلام ومحن ومصاب غزة لها حلان:
الأول: عاجل، هو: إيقاف العدوان على الفور، وفتح المعابر، وعلاج الجرحى، وإغاثة المصابين. وهذه مهمة الدول الإسلامية، ومن مسئولياتها بالدرجة الأولى، حيث تملك ما لا يملكه الأفراد.
الثاني: آجل طويل الأمد، هو: معرفة الأسباب التي أدت لمثل هذا العدوان على المسلمين، وعلاجها.
فأما السبب فمعروف، هو: الوهن. والعلاج ضده، وهو: إزالة الوهن. ثم لكليهما تفصيلات. لكن العلاج يحتاج إلى مدة، كما احتاج السبب إلى مدة، فالوهن ما تمكن من الأمة إلا بعد قرون، وإزالته مهمة تحتاج إلى مدة ليست بالقصيرة، قد تمر في سبيلها أجيال.
- {فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون}.
- {وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.
وما الوهن؟. حب الدنيا وكراهية الموت. ليست المشكلة في ذات الحب والكراهية، إنما فيما ينتج عنهما، يقول - صلى الله عليه وسلم -: - (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله!، فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب عدوكم؛ لحبكم الدنيا، وكراهيتكم الموت) [أحمد/صحيح الجامع1359].
من أحب الدنيا وكره الموت، فتح على نفسه باب الموبقات، من كبائر، وموالاة الأعداء، والقول على الله بلا علم، وركوب الفواحش، بقدر ما أحب وكره؛ إذ تصبح الدنيا همه، فلا يبالي كيف أتت: أمن حله، أم من حرامه؟. وسر انتصار المؤمنين دوما: طاعتهم، وإيمانهم. وحب الدنيا وكراهية الموت يهتكان الإيمان والطاعة، فلا مفر من الهزيمة إذن. وانظر في كل انتصارات المسلمين تجد عنصر الإيمان والطاعة بارزا؛ ولذا وجدتهم ينتصرون وهم قلة في العدة والعتاد.
ونحن لدينا تجربتان في استعادة الأقصى بعد احتلاله:
الأولى: احتلاله من قبل الروم النصارى، ثم استرداده من قبل الخليفة عمر - رضي الله عنه - مع الصحابة.
والثانية: احتلاله من قبل الصليبيين، ثم استرداده من قبل صلاح الدين، بعد تسعين عاما من الأسر.
هاتان التجربتان مهمة جدا، تحتاج إلى دراسة مفصلة؛ لمعرفة دواعي الاحتلال، ودواعي وأسباب الفتح والاستعادة، والتصدي لمثل هذا العمل، بدراسة تاريخية ونصية، عمل محوري مفصلي في الوقت.
لا ينبغي أن نبالغ في الجزع مما يحدث في غزة، فهذا المصاب متكرر "سابقا ولاحقا"، ولا يصلح أن نكثر العويل لحظة الحدث، ثم نرجع بعدها إلى: حب الدنيا، وكراهية الموت. بل نُعلّم الأمة كلها، ونُدرّسها: كيف سقط الأقصى مرتين، وكيف رجع في المرتين؟. لتفهم الدرس، وتعي الحقيقة، وتعرف الطريق كيف يكون؟.
العمل طويل وشاق، ويحتاج إلى زمن، فقد تمر أجيال قبل بلوغ الهدف، وفي هذا المقام سنعرض لِمَثَلٍ نجح في القيام بمهمة إنشاء جيل قادر على الردع، واسترداد المقدسات.
نور الدين محمود زنكي، أحد ملوك الإسلام العظام، تولى الملك سنة 541هـ، يقول عنه ابن الأثير:
- "طبق ذكره الأرض، بحسن سيرته، وعدله، وقد طالعت سير الملوك المتقدمين، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن منه سيرة، ولا أكثر منه تحريا للعدل، وقد أتينا على كثير من ذلك في كتاب الباهر من أخبار دولتهم، ولنذكر هنا نبذة، لعل يقف عليها من له حكم فيقتدي به" [الكامل 9/125].
هو بحق ملك فريد، جمع إلى عظمة الملك: العبادة والتعفف. وإلى القوة: العدل والإحسان. وإلى الجهاد: العلم، والخشية. سعى في تربية رعيته على الامتثال للشرع.
وعمل على إظهار السنة، وإبطال البدعة.. لم يسمع منه كلمة فحش قط، في غضب أو رضا.. كان فريدا في علاقته بربه، وبرعيته.
كان مجاهدا شجاعا، يتقدم جيشه، لا يبالي بالموت.. والدنيا عنده ليست بشيء، يقول:
- "تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك، ولو كان في خير، ولي عند الله قيمة، لرزقنيها".
قال له قطب الدين يوما: "بالله يا مولانا السلطان!، لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين. فقال له: اسكت يا قطب الدين!، فإن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود؟، من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي، غير الذي لا إله إلا هو؟، ومن هو محمود؟. فبكى من كان حاضرا. [البداية 2/289].
حين جهاده النصارى في دمياط، قَرأ عليه بعض طلبة الحديث، جزءا فيه حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه أن يتبسم ليصل التسلسل. فامتنع من ذلك وقال [البداية 2/261]: "إني لأستحي من الله، أن يراني متبسما، والمسلمون يحاصرهم الفرنج بثغر دمياط".
مع كل مهامه، لم يغب عنه الرياضة، يروض بها نفسه وخيله للجهاد، يلعب الكرة، يضربها بعصا وهو على الخيل، ثم يسوق وراءها حتى يأخذها وهي في الهواء. فعاتبه في ذلك بعض من فيه غفلة من الصالحين، يظنها لهواً، فقال: [البداية 2/279]: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر، وتعليمها على ذلك، ونحن لا نترك الجهاد".
أبطل دين الروافض من بلاد الشام والعراق، وأظهر السنة وأمات البدعة، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة، حي على الفلاح. وقد كان قبل يؤذن بحي على خير العمل. [البداية 12/278].
أحب السنة وعظمها، وجعل الشريعة فوق كل رأي. قُرأ عليه جزء حديث، فيه: (فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقلدا سيفه). فتعجب كيف يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم، ولا يفعلون كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها، فخرج إلى الموكب وهو كذلك وجميع الجيش. [البداية 12/281].
كتب إليه الشيخ عمر بن الملا: "إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة، ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وضرب وصلب، وإذ ا أخذ الإنسان في البرية من يشهد له؟ ". فكتب إليه على ظهر كتابه: "إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة، وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة لنا إلى الزيادة على ما شرعه الله - تعالى -، فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة، فهو يريد أن يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله - سبحانه - يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم". [البداية12/282].
قال الفقيه أبو الفتح الأشري معيد النظامية ببغداد، وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين، قال: كان نور الدين محافظا على الصلوات في أوقاتها، في جماعة، بتمام شروطها، والقيام بأركانها، والطمأنينة في ركوعها وسجودها، وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله - عز وجل - في أموره كلها. قال: وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد قولهم، أنهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج فسمعهم يقولون: إن القسيم ابن القسيم يعنون نور الدين له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله يدعو، فإنه يستجيب له، ويعطيه سؤله، فيظفر علينا. فهذا كلام الكفار في حقه" [البداية 12/283].
مرة اشتكت زوجته الضائقة، فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له، يحصل منها في السنة عشرين دينارا، فلما استقلتها، قال لها: [الكامل 9/125]: "ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين، لا أخونهم فيه، ولا أخوض النار لأجلك".
كان يقتات من تلك الدكاكين، التي اشتراها مما يخصه من المغانم، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال، فكان لا يزيد عليه، ولا يلبس الحرير، ولا يأكل إلا من كسب يده. [البداية12/278].]